خلقنا من عجل،
نركض مع الحياة ولا نكاد نصل، نسابق أجزاء الوقت لتحقيق ما نريد، نضع أهداف، خطط،
ومواعيد مجدولة بالزمان والمكان. ننام بأمر من الساعة ونستيقظ على رنين المنبه
وأنين أرواحنا. خطواتنا متسارعة وأنفاسنا متقطعة، تمر الصور والوجوه أمامنا بلا
تفاصيل أو ملامح، فلا وقت لدينا للتأمل فقد شغلتنا الإنجازات ولسان حالنا يقول نحن
في عصر السرعة. نغوص، ولكن في السطح ونتمسك بشدة بطرف الأمر. لا هم لنا إلا
المسارعة والمسابقة وكأن الوقت خلق ليُقطع. كل شيء في حياتنا له كثافة إلا الشعور، وصلنا
لكل الأعماق إلا عمق المعنى، فقدنا الإحساس إلا بالإنجاز، تخدرت القيم إلا قيمة
الوقت. متى نهدأ؟ متى نلتقط أنفاسنا وحياتنا بهدوء؟ متى نعيش الوقت لا نقطعه؟
هدرنا أيامنا، وقضينا العمر على عجالة، نعم وصلنا لما نريد، حققنا الانتصارات، مُلئت
مكاتبنا بخطابات الشكر، وقلدنا الميداليات، ولكن.. شيء ما مفقود بين زحام الإنجازات
والجوائز، شيء لا يُحمل كالكأس، ولا يُقلد كالوسام، شيء أشبه بالروح للجسد
وبالمعنى للكلمة.
عندما تتباطأ
الحياة، وتخضع لقانون الهدوء والسكون، تبدأ التفاصيل بالظهور، ويعود الإحساس
بالمعنى، ويصبح لكل شيء قيمة. سترى عندها ملامح الوجوه وزوايا الصور. لن ترى
السماء، بل سترى السحاب والنجوم والقمر. ولن ترى الطريق، بل سترى أناس يمشون على
الرصيف، وإشارات مرور وإنارة. ستحظى برفاهية الانتباه، وتفوز باللحظة. عندما تؤمن
أن الجمال ليس في الوجهة، بل في الرحلة ستصبح خطواتك أبطأ، ونبضاتك أصدق، ستصبح
الهوامش متون، والتذييل نصوص. عندما تعيش اللحظة، وتستشعر التفاصيل، تشعر وكأن
الحياة تتمدد، وكأن عمرًا يضاف لعمرك. جرب أن تعيش بشعور توقف اللحظة على شيء تحبه،
منظر الشمس وهي ترتفع بهيبة في السماء لتأخذ مكانها رغم الغيوم، منظر ورق شجر دخل
بعفوية من النافذة، صوت قطرات المطر تلامس علبة معدنية في الشارع تائهة، صوت طفل
يجعلك تركز في براءة نبرته مضيعا كلمات قالها، رائحة عطر ليس لجمالها، بل لارتباطها
بمرحلة الجامعة، مذاق طعام محترق يذكرك بمحاولة طهي فاشلة مع من تحب. ليست العبرة بالشيء،
بل بالإحساس به، والانغماس في الشعور المصاحب له، واللذة الباقية بعدها.
نمط الحياة
المتباطئة نمط الحياة السعيدة، لأنه قائم على التأمل والاسترخاء مما يحرر النفس من
ثقل التوتر، والقلق المتزايد مع تزايد المسؤوليات وتراكم المهمات في حياتنا
اليومية. جرب أن تعلق في لحظة تحبها، تعيشها بتفاصيلها مهما كانت بسيطة، فالجمال
يكمن في أبسط الأشياء، ستجد أثر هذا الشعور يلازمك حتى بعد انتهاء اللحظة، بل
ستتعامل معه كالمهدئ كلما هاجمك قلق. في كثير من الأحيان عندما نشعر بالإعياء
والتعب نحن لا نحتاج فيها لعقار بقدر ما نحتاج للحظة عفوية لا تمر منا مرور الكرام.
لنصطاد كل عابر جميل في حياتنا، لنؤمِن لنا مخزون جيد من محفزات السعادة والاسترخاء،
لنعيش العمر بالمعنى وليس بالأرقام. ولو تأملنا العمر لوجدنا أنه عبارة عن لحظات
متراكمة ومتراكبة، وأنه لا يحسب بالسنين، بل بوقت عشناه بمعنى وفعل بشعور عميق.
أتمنى لو تتعطل
الحاسبات، وتتوقف المنبهات عن العمل، وتفقد الأجراس أصواتها، وتُتلف أوراق قائمة
المهام، ليس لأنام، بل لأعمل بهدوء بدون قلق، وأسعى بأناة، وأنكب على اللحظة
الجميلة التي تقاطعني دون إدراك الوقت وشعور الذنب، أن أحقق الإنجاز الذي أريد دون
أن أخسر عمري في وعثاء الطريق إليه، أن أصل لما أريد دون أن يضيع مني طعم الحياة.
أتمنى أن أعود بقلب طفلة كما كنت، أتأمل ظلي أثناء سيري للمدرسة ورغم ذلك وصلت.
منال الرحيلي
0 تعليقات