الخطيئة جزء منا وطبع في بشريتنا إذ لا نكاد نحسن حتى يعقب ذلك الإحسان زلة. وإن من أكبر الخطايا تلك التي نرتكبها في حق أنفسنا. حين نغدر بقلوبنا بحب لا يليق بها، وحين نظلم ذواتنا بزجها في علاقات تنهكها، وحين نقسو على أنفسنا بحمل هموم ليست لنا نكون قد أسرفنا في الخطأ ليس في حق أحد، ولكن في حق أرواحنا التي كان من المفترض صونها ورعايتها. عندما نسكت عن خذلان، ونداري الآلام، عندما نتوارى خلف ستار فضيلة العفو بينما قلوبنا يمتصها ألم الظلم يصبح الأذى منا وليس من الناس، ونكون عونا علينا. عندما نلبس ثوب الحكمة قسرا لنستر حماقة أصابتنا وجهلا، وعندما نواري رغباتنا خلف أعراف لا تشبهنا، وعندما نكتم صوت أحلامنا حتى لا تنزع هدوء غيرنا نكون قد ظلمنا أنفسنا وأسرفنا في ذلك. قد نخطئ في حق الناس مرة، ولكنا بالمقابل نخطئ في حقنا مرات. وتمضي أيامنا بأخطائنا، ونمضي معها بدون وقفة مع النفس، وقفة نواجه فيها جنايات، ونصلح انكسارات، لعلنا نلملم أشتاتنا ونعيد لأرواحنا بريقها ونتقن فن الاعتذار. ولكن ممن نعتذر؟ ممن صادر عفويتنا واستغل صدقنا! أنعتذر ممن اتخذ بياض قلوبنا ساحة للمراوغة! هل نقدم عذرنا لمن أصر على إخراج أسوأ ما فينا! أم نعتذر ممن تركنا محلقين في سماء ليست لنا! ممن نعتذر ونحن من دفع الثمن؟ ونحن من قاوم حتى انكسر.
لنعتذر لأنفسنا التي صمدت وصمتت في وجه الأحداث والمواقف، التي سكتت عن أشخاص، وتحملت طباع، لنعتذر لقلوبنا كم ملئناها حزنا وعمرناها بالخيبة، ولعقولنا كم حملناها ضجيجا، وكلفناها بتصديق مالا يقبله منطق. نحن لم نتجاوز إلا حدود مشاعرنا ولم نجرؤ إلا علينا. لنا الحق في اعتذار يوقظنا من دور الجاني، وينهي محاكمة نفسية غير عادلة. لقد حان وقت نحرر فيه أنفسنا اللوامة من عقدة الذنب ونعفيها من جلد الذات. لنعيد المشاهد ونعيد توزيع الأدوار ولنطلق المسميات المناسبة على أصحابها بدون شفاعة العواطف وتأثير المكانات. قلوبنا أولى بالرفق، وحياتنا أثمن من أن تقدم قربان رضا لمن لن يرضوا عنا أبدا.
الاعتذار للنفس يكون على شكل تقبلها وتفهمها والتصالح معها، وعدم القسوة عليها لنيل رضا الاخرين، والتحرر من قيود التوبيخ والتأنيب الداخلي، والوقوف في وجه أخطاء الناس نصرة لها وحفظا لكرامتها، والترفع بها عن مخالطة من لا يرتقي لها وتنزهها من دناءة أفعالهم. الاعتذار للنفس هو اعلان تحالف معها ووضع حدود صارمة للآخرين تحرم انتهاكها أو حتى الاقتراب منها. فلا نسمح لتعامل قائم على مزاجية أو ود مشروط أو قرب حسب الظروف. النفس عزيزة ومحاولة التلاعب بها جريمة، لذا لن نعتذر من أحد اختار ألا يرضى، واختار أن يجعل الابتعاد ردا على سوء فهم. لن نأسف إلا على وقت أهدرناه في محاولة الإحسان لهم وجهد ضائع من أجل راحتهم. سنكتفي بهذا القدر من الخذلان، ونضع كل واحد في محله ونعيدهم إلى أماكنهم التي تشبههم ولا تشبهنا. سنرحب بالخصومات والانتقادات وبعض الابتعاد مقابل أن نحظى بنا ونكون الطرف الراضي. عندما قال الأديب أنيس منصور "أصعب خصومة هي خصومتك مع نفسك، وأجمل انتصار هو اعتذارك لها" كان يعرف أن أعظم صلح يستحق أن نسعى له هو ذاك الذي يكون مع النفس حتى ولو كان المقابل ثورة ممن حولك.
نحن أولى بكلمة "آسف" من غيرنا، وأحق بالاعتذار ممن لم يرع
حقنا فيه. سنحتفظ بأنفسنا ونرخي أيدينا عمن استباح قلوبنا، سنمضي بمن رضي ومن لم
يرضى فلا السماء سماؤهم ولا الأرض فرشت لهم.

0 تعليقات