Ad Code

Responsive Advertisement

أحاديث الظل



عندما تخفت الأصوات، وتتداخل الهمهمات، وتعتذر اللغات عن الكلام، تبدأ أحاديث بالظهور، أحاديث نمت في الظل مع غفوة الحروف. أحاديث حروفها النظرة والنبرة، وتشكيلها الإيحاء والإيماء. أحاديث صوتها الصمت وصداها يتردد في ثنايا الروح. لغتها بلا قاموس ولا تراجم، حرة بلا قواعد، بليغة بلا صرف. تلتقطها موجات النفس فتنصت لها المشاعر لتتلقى رسائل وأسرار تسربت من الآخر رغم مقاومة فلتات اللسان. رسائل لا تحملها مصفوفة الكلمات ولا أوزان القوافي، بل يحملها وجه مرتبك، نظرة ضحوكة، يد توارت في جيب معطف، زفرة وتنهيدة. 
 
وهنا حيث الصمت خير وسيلة لسماع مالا يقال، وقراءة مالا يكتب، حيث في الفضاء فضفضة وتنفيس ليبقى اللسان عفيفا من وزر الكلمة، نزيها من إثم المعنى، تسرد التفاصيل معانيها وتفشي أسرار وحكايات. تفاصيل أخذت مكانها في ملامح الوجوه، في ابتسامة شقت طريقها باتجاه ثغر محدثك، في عقدة حاجبين وتقاطع ذراعين، في مسافات رسمتها الأجساد، في ميل ظهر أو استقامة، في إقبال روح أو نفور قلب. أحاديث استظلت بلسان يلتزم الحذر لتخفي حقيقة شعور، أو صراحة رأي مكابرة أو مداهنة، أو تجنبا لخوض معارك الاختلاف. فالخيانة لا يصرح بها، والحب لا يفسر، والتقدير يصعب شرحه، والمكر يتوارى خلف زيف الابتسامة. إننا نسمع ما نرى، فالمشاهد لها صوت وإن كانت صامتة على مسرح الحياة.
 
 دائما هناك شيء لا يقال، هناك شيء يقاوم الظهور ويبحث عن ظل فتفضحه نظرات العيون. ودائما هناك منطقة أمان تستريح فيها الحقيقة بعيدا عن العلن، ولكن الأرواح تتلاقي بلا استئذان ولا حذر فينكشف المستور، ويفهم الغموض، لذا ما تسمعه بقلبك أصدق مما انصب على مسامعك، فلا تصدق كل ما ترى لأن أغلب الحقيقة لا تُرى. لا تطالب الآخرين بالوضوح في كل شعور وموقف، يكفيك ما يظهرونه لك، وعليك أنت فهم الباقي. قد يكون من الأفضل لبعض الأمور أن تمارس التخفي، وقد يكون من السلامة ألا تعلن. وقد تجد فيها من الراحة ما يجعل فهمك في سعة، إن ساءك ما وجدت تجد معه ساحة للأعذار، وإن سرك ما رأيت لا تعول عليه كثيرا حتى لا تفقد اتزانك في تقبل نقيضه، فالقلوب أسرار والمقاصد مبهمة، إن اتضح لك منها شيء غاب عنك منها الكثير.
 
كثيرا ما تشعر أنك بحاجة لمن يفهمك دون عناء التصريح، لمن يفهم تلميحك، ويقرأ رسائلك من صفحات روحك، كثيرا ما تحتاج لمن يحسن الإصغاء لصمتك، ويعرف فك شفرات تمتماتك وأنفاسك. شخص كهذا هو أشبه بالظل لروحك، كالنبض لقلبك، يسكن حيرتك، ويطمئن ارتباكك، ويحتويك قبل انهيارك. لذا التواصل الفعال الحقيقي يكمن في الطريقة التي يتصل بها أولئك الذين اتصلوا بأرواحنا، وفهموا اخفاقاتنا فعذروها، وقدروا كبرياءنا فحافظوا عليه. تلك هي اللغة التي تشعرنا بإنسانيتنا، لغة مشاعرنا التي تعبر عنها أجسادنا وحركاتنا، يجيدها الجميع وليس الجميع يفهمها، خفيفة مريحة إن أردنا التنفيس، محرجة إن فضحتنا وقاومت تكتمنا. أحاديث الظل لا يسمعها إلا من امتلأ عاطفة وامتلك فهما ووعيا.  



منال الرحيلي
 

إرسال تعليق

0 تعليقات

Ad Code

Responsive Advertisement