حدود المكان أم حدود الشعور..
نحن لا نعرف الوداع، لأن جزء منا يعلق في ذلك المكان، المكان الذي غادرناه
تاركين أرواحنا ساكنة فيه. دائما ما نترك أبواب الأماكن بعد الرحيل مواربة لعلنا
نعود. نعود على ظهر الذكرى لشارع حفظ خطواتنا، وجدران سمعت أحاديثنا، نعود لبيت
الطفولة القديم، أو لمحطة وقود على الطريق. دائما ما نترك الأماكن، ولكنها تأبى أن
تتركنا. حين يصبح المكان شعورا يصبح الرحيل صعبا، لأننا وإن غادرنا المكان فإنه لا
يغادرنا.
ذاكرة الحنين تجعل الأماكن تقيم فينا..
هل للأماكن التي عشنا فيها ذاكرة؟ هل تحتفظ بذكرياتنا أم أنها فينا قائمة؟
تربكنا المشاعر كثيرا عندما تربطنا بكل شيء. عندما يصبح الحنين وجوه، وأسماء، وأماكن،
عندما نتنهد لرائحة، وتبكينا أغنية. نعم للأماكن ذاكرة هي ذاكرة الحنين لكل شيء كان
فيها. فلكل مكان أهله، أحداثه، تفاصيله، حتى الضوء المتسلل داخله تشعر أنه يمتد
إلى أعماقك لو أحببته. أما هدوئه فقد يفعل بك كما يفعل الناي بمسامع قلبك. ماذا
فعل بنا ذلك المكان؟ لقد اختلس منا مشاعرنا وحكاياتنا، وكأنه يقول للواحد منا: أرني
كيف ستغادرني الآن! هل هي غيرة المكان علينا، أم أنه تملكنا بحيث أصبحنا لا نغادره
إلا جسدا. بدت تلك الأماكن وكأنها تنبض، ولكن من خلالنا، فأينما توجهنا هي بداخلنا.
فنتخيل أننا نقف على نفس الرصيف، ونتمنى لو أن مقعد السيارة هو نفسه ذاك الذي
سيأخذنا في جولة للطرقات التي عهدنا فيها رؤية منظر أعمدة الإنارة وقد تسرب الضوء
من خلالها شيئا فشيئا.
تتشابه الأماكن ويختلف الشعور..
ليس المكان الذي تركناه خلفنا كالذي نحن فيه الآن وإن تشابهت المعالم.
روح المكان لا تتكرر، تماما كروح الإنسان. ويبقى دائما السر بعيدا عن إدراكنا، هل
نحن من أعطى الأماكن حياة؟ أم أنها كانت حية بذاتها فعلقنا بتفاصيلها؟ قد يكون
للمكان شبه بشيء فقدناه، فأعاده إلينا من خلال زاوية احتضنت كرسي ومصباح، وقد يكون
لضجيجه إيقاع يشبه صوت الحياة الذي عرفناه. للأماكن سرها، فهي لا تتشابه في الشعور
وإن تناسخت تفاصيلها. عندما تجبرنا الحياة بطبيعتها على مغادرة مكان أحببناه
وارتبطنا به، نحاول جاهدين أن نبحث عن أشباهه، أو قد نجتهد بخلق نفس أجوائه، ولكنا
بالطبع نفشل باستعادة الروح، وجلب ذات الشعور مهما حاولنا. عندها لا نملك سوى أن
نبقي على تفاصيله الممتلئة بنا داخلنا، فالخارج غريب وباهت لا يشبهنا ولا يمكن أن تتعرف
عليه مشاعرنا. وكما قال محمود درويش "بعض الأماكن مثل بعض الأشخاص، لا نعود
إليها، بل نظل نحملها في قلوبنا". فمهما تخطت أقدامنا الكثير من الأماكن، إلا أن
قلوبنا لا تستطيع أن تتخطى مكان أزهرت فيه.
نحن من أعطى للمكان قيمة..
لا يمكن أن يكون للمكان معنى لولا حياة قضيناها فيه وإن كانت أيام
معدودة، لولا لحظات عشناها بمشاركة من نحب فارتبط المكان بهمسهم، لولا أحاديث
تجاذبنا أطرافها بلطف مع صديق، ولقمة سائغة تشاركناها مع عائلة. نعم نحن من أعطى الجدران
روح، وعلق في زواياها معنى. نحن من صنع للمكان ذاكرة، وجعل للتفاصيل قيمة عندما
وزعنا ضحكات على ممرات المنزل، وملأنا فراغات المكان أحداثا لا أثاثا. دائما
الحنين للذكريات الأولى وليس للأجمل منها، للحظة الأولى والشعور الأول. دائما ما
نتمسك ويبقى مستقرا في ذاكرة قلوبنا "البدايات"، ليس لجمالها، ولكن
للشعور الفريد الذي يأتي معها. فشعور التجربة الأولى هو نفسه شعور اللحظة الفريدة
الذي يرتبط به ويذكرنا به كل شيء كان حوله.
وفي النهاية.. نحن نقاوم فكرة التخلي عن مكان ارتبط بمن نحب، أو فيه شيء
يجعلنا نحب أنفسنا. نرفض مغادرة مكان يشبه روحنا، أو فيه جزء منا نخشى لو تركناه أن
نخسر شيء من ذاتنا. مكان نشعر فيه بعمق الحياة ومعنى الحنين.
منال الرحيلي
0 تعليقات